فجوة البيانات في سوريا ما بعد النزاع وأثرها على جهود التعافي
- Abdullrahman Al Shaar
- Aug 18
- 3 min read

في مرحلة ما بعد النزاع، قد يكون غياب البيانات الدقيقة مؤلمًا بقدر الدمار الذي خلّفته الحرب. تخيّل مركزًا صحيًا في ريف طرطوس ينفد لديه مخزون الأنسولين، ليس بسبب عجز في الإمدادات، بل لأن أحدًا لم يمتلك إحصاءً حديثًا لعدد مرضى السكري في المنطقة.
القرارات تُتخذ، والمساعدات تُوزَّع، ومشاريع إعادة الإعمار تنطلق، لكن دون صورة واضحة عن من يحتاج ماذا وأين ومتى، تصبح عملية التعافي مجرد تخمين. وفي سوريا اليوم، لم تعد البيانات مجرد أداة تقنية، بل أصبحت البوصلة التي توجه مسار إعادة البناء.
لماذا تُعدّ البيانات ضرورية في مسار التعافي؟
بعد سنواتٍ طويلة من النزاع، تبدو مهمة إعادة الإعمار هائلة ومعقّدة. ومع ذلك، فإنّ ما يجمع بين كلّ قرار يُتخذ—سواء تعلّق ببناء مدرسة أو توزيع مساعدات غذائية—هو الحاجة إلى بيانات دقيقة وحديثة.
وضع السياسات: تُسهِم البيانات في توجيه الموارد نحو المناطق الأكثر حاجة، من خلال فهم الأسواق، وتقدير حجم الطلب، ورصد فرص الاستثمار.
الاستجابة الإنسانية: تمكّن البيانات المنظمات من التحرّك بسرعة وفاعلية، بما يتناسب مع حجم الاحتياجات الفعلية على الأرض.
تعزيز الشفافية والثقة: تُسهم القرارات المبنية على الأدلة، لا على التقديرات، في ترسيخ ثقة المواطنين بالمؤسسات وتعزيز مصداقيتها.
واقع البيانات في سوريا اليوم
يتّسم المشهد البياني في سوريا ما بعد النزاع بالتشتّت والقصور، ما يعوق جهود التخطيط والتنمية الفعّالة:
إحصاءات رسمية محدودة: تعتمد قواعد البيانات الحكومية في كثير من الأحيان على معلومات قديمة أو غير مكتملة.
مصادر متفرّقة: تجمع وكالات الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، والمجالس المحلية، والباحثون المستقلون بياناتهم بشكل منفصل، دون تنسيق أو توحيد للجهود.
تعداد سكاني متقادم: يعود آخر تعداد سكاني شامل إلى ما قبل اندلاع النزاع، ما يجعل التقديرات السكانية الحالية غير دقيقة ولا يُعتمد عليها.
حساسية سياسية: تُشكّل القيود المفروضة على مشاركة البيانات عائقًا كبيرًا أمام الوصول إلى صورة شاملة وموثوقة عن الواقع الميداني.
أبرز الفجوات التي تعيق التعافي
تُشكّل الفجوات البيانية في سوريا أحد أبرز التحديات أمام جهود التعافي وإعادة الإعمار. وفيما يلي أبرز هذه الفجوات:
البيانات الديموغرافية: لا تتوفّر معلومات دقيقة حول عدد السكان الحاليين، ولا حول التوزيع العمري أو أوضاع النازحين والعائدين، ما يُضعف القدرة على التخطيط للخدمات وتوزيع الموارد بعدالة.
المؤشرات الاقتصادية: تفتقر البلاد إلى بيانات محدثة بشأن معدلات التوظيف، وأسعار السلع، واتجاهات النمو في مختلف القطاعات، مما يحدّ من إمكانيات صياغة سياسات اقتصادية فاعلة.
البنية التحتية والخدمات: لا توجد خرائط محدثة وشاملة للمرافق الأساسية مثل المدارس، والمراكز الصحية، وشبكات المياه والكهرباء، ما يعيق تحديد الأولويات وتوجيه الاستثمارات.
المؤشرات الاجتماعية والصحية: تشهد البيانات المتعلقة بالصحة النفسية، والإعاقة، والأمراض المزمنة نقصًا حادًا، رغم تصاعد الحاجة إليها في مرحلة ما بعد النزاع.
عواقب غياب البيانات الموثوقة
لا تقتصر فجوات المعلومات على كونها مسألة إحصائية، بل تمتد آثارها لتؤثّر بشكل مباشر في حياة الناس، وتُعيق مسار التعافي والاستقرار:
سوء توزيع الموارد: غالبًا ما تذهب المساعدات إلى المناطق التي تحظى ببيانات أوفى، فيما تُهمّش مناطق أخرى قد تكون أكثر حاجة، بسبب غياب المعلومات الدقيقة عنها.
ضياع الفرص الاقتصادية: يتردّد المستثمرون في الدخول إلى أسواق تفتقر إلى الشفافية والبيانات الأساسية، ما يُفقد البلاد فرصاً حيوية للنمو.
بطء في وتيرة التعافي: تؤدي الفجوات المعلوماتية إلى تأخّر اتخاذ القرارات، وتكرار المشاريع أو إهمال بعضها، نتيجة لعدم وضوح الأولويات على أرض الواقع.
تآكل الثقة: حين يلاحظ المواطنون نتائج غير متوازنة أو غير عادلة، تتراجع ثقتهم بالمؤسسات، ويضعف الرابط بين المجتمع وصنّاع القرار.
خطوات لسد فجوة البيانات
سدّ الفجوة البيانية في سوريا يتطلّب جهودًا متعددة المستويات، تتكامل فيها المؤسسات الرسمية مع المبادرات المحلية والتكنولوجية. وفي ما يلي أبرز الخطوات المقترحة:
تفعيل دور الهيئات الوطنية المعنية بالبيانات: ينبغي دعم المؤسسات الوطنية مثل "المكتب المركزي للإحصاء" و"هيئة التخطيط والإحصاء" للاضطلاع بدورها في جمع البيانات وتحليلها ونشرها بشكل دوري ومنهجي.
توظيف التكنولوجيا والبيانات المفتوحة: يمكن استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة—مثل الاستشعار عن بُعد لتقييم أوضاع البنية التحتية، والمنصات مفتوحة المصدر لتبادل البيانات—لتجاوز القيود التقليدية وتسريع عمليات جمع المعلومات.
بناء قدرات محلية في الثقافة البيانية: يُعدّ تدريب المجالس المحلية، والصحفيين، ومنظمات المجتمع المدني على جمع البيانات وتحليلها أمرًا أساسيًا لضمان تدفق المعلومات من القاعدة إلى القمة، وبناء قاعدة بيانات مجتمعية أكثر واقعية ومرونة.
تعزيز الشفافية وإتاحة البيانات: إتاحة قواعد البيانات غير الحساسة أمام العموم يفتح الباب لمشاركة أوسع، ويُعزّز من انخراط المجتمع في مراقبة السياسات وصنع القرار.
البيانات حجر الأساس في مسار التعافي
إنّ سدّ فجوة البيانات لا يُعدّ مجرد جهد تقني أو إداري، بل هو ركيزة أساسية لأي مسار تعافٍ شامل. فالقرارات التي تُبنى على معطيات دقيقة تُجنّب الهدر، وتُسرّع التنفيذ، وتُعزّز ثقة الناس في مؤسساتهم. وحين تتكامل جهود الدولة مع قدرات المجتمع المدني، ويُستثمر في التكنولوجيا والمعرفة المحلية، تصبح البيانات أداةً للعدالة والشفافية والنمو.
فلنبدأ من حيث يجب أن يبدأ التغيير: شارك في بناء منظومة بيانات موثوقة.
إن كنتَ باحثًا، فابدأ بمشاركة بياناتك؛ وإن كنتَ في موقع مسؤولية، فاجعل الشفافية هي القاعدة لا الاستثناء؛ وإن كنتَ مواطنًا، فطالب بمعلوماتٍ تُحترم بها كرامتك واحتياجاتك. فبقدر ما نُضيء زوايا الواقع، نُسرّع تعافي الوطن.